مشاركتي في ورشة عمل أنا أنتمي (I Belong) التابعة للمجلس الثقافي البريطاني
جلست في بهو المطار.. أنظر إلى الطائرات .. في هبوطها و إقلاعها …
فسمعت صوتاً من خلفي يقول : جميلة هي الطائرات …. بإقلاعها و هبوطها ..
تذكرني … بمسرحية موسيقية تدعى ( بحيرة البجع )….
فكما البجع الأبيض … ترقص الطائرات … على أنغام الموسيقى… رقصة الرحيل ..
نظرت اليه …
فجلس رجل في بداية الثلاثينيات بجانبي بهدوء …
وقال : أترى تلك ذات الجناح الأحمر … تلك هي طائرتي اليوم ..
نظرت اليه و أسئلة كثيرة تدور في ذهني …..
قلت :و كيف تعرف هذا ؟
تمتم بصوت منخفض : وكيف لا أعرف!!
نظرت إلى وجهه باستغراب .. فقال موضحاً …
إنني يا عزيزي رحال .. أعيش حول الحقائب وبين نظرات المارة …..
أقضى معظم وقتي.. ما بين طائرة ومطار…. ما بين مركب و سفينة ….
لم تبق مدينة سوداء ولا بيضاء … شقراء ولا حمراء …. الا وطئتها حقائبي …. و غنى لي القمر فيها ….
أغنية حب جميلة ….. حتى تغفو جفوني …..
في كل مكان …. لي أصدقاء …. وفي كل مدينة … أترك قلب كسير ….. يشتاق لتقبيل جفوني…
ولكن حقائبي … تأبى الاستقرار … و تأبى أن تعود لتفتح … في نفس المكان ….
أسند رأسه إلى الخلف … فسألته بصوت خافت : ولم تفعل ذلك ؟؟
رفع رأسه بعصبيه … ثم نظر إليَ برهة ..
وقال كأنه يخاطب نفسه : لماذا ؟؟؟ سؤال يتردد دوماً عليَ …. ولم أملك يوماً الجرأة في الرد عليه …
ولكنني اليوم .. و لأول مرة … سأجيب عليه…
ثم و كأنه يعود بالماضي :
عندما كنت طفلاً … كنا نعيش .. أنا ووالدي .. في إحدى المدن الخاضعة للاحتلال …
حيث أذهب أنا إلى المدرسة .. عبر الحواجز وصرخات الجنود …..
ويذهب أبي إلى عمله طوال النهار …
و نعود في نهاية اليوم … لتناول الطعام … على سفرة من تراب …
ثم نفترش الأرض ..ليحكي لي والدي …حكاياً ستظل عالقة بذهني إلى الأبد….
حكايا ..عن مدينة جميلة.. السلام … شعارها …. فلا حرب فيها .. ولا شجار .. ولا خوف …
مدينة … تهب الحب .. كما تهب الماء … بلا شرط .. ولا سبب… ولا انقطاع …
مدينة .. نعيش بها .. كعصفوران طليقان … بلا حواجز … بلا جدران .. ولا قيود لتكبل حريتنا ….
ننام فيها … ملئ جفوننا … لنستيقظ … وصوت العصافير … يمتزج بالريح … لتعزف لنا الطبيعة …
سمفونية عذراء …..
في كل ليلة … كان يحكي لي عن هذه المدينة …
ببيوتها البيضاء .. المتشابهة في سقوفها القرميدية الحمراء … بزهورها الملونة …. المتناثرة في كل مكان ….
بأطفالها الضاحكين … ونساءها الجميلات …
كنت في كل ليلة … أحلم بهذه المدينة … وفي كل ليلة أتساءل …
لم فرض عليَ أن أعيش هنا ..في بيت .. ليس ببيت .. وسرير … ليس بسرير .. وحياة … ليست بحياة…..
كنت أتسائل دوماً …. لم لا نذهب الى الوطن ….
نعم .. فلقد كانت هذه المدينة هي الوطن بالنسبة إليَ … هي المكان الوحيد الذي أحسست بالانتماء إليه .. طوال حياتي …..
وفي يوم من أيام الشتاء القارص … وبينما أنا في طريقي إلى المنزل …
سمعت صوت انفجار هائل … قادم من جهة بيتي … فركضت .وركضت..
و الأفكار تغرق رأسي الصغير…. كما ريشة في مهب الريح …
وصلت …. لأجد كتلة سوداء …. مكان شيئ كنت اعتبره بيتي … رماد متناثر في كل مكان …..
وركام … يسد كل شيء….
بحثت عن والدي … تحت أكوام الحجارة و الرماد …
فوجدته بعد عناء بين الأنقاض …
بعينان مفتوحتان …. و ابتسامة حملت كبرياء العالم ….
نعم ..
لقد توفي أبي … توفي ….و أنا في العاشرة من عمري ……
كان والدي …. هو عائلتي الوحيدة … هو الشخص الوحيد الذي أحببته من كل قلبي ….
و الآن… قد رحل ….
اسودت عيناي بالأحزان … و أنطفأ بريق القمر …
في تلك اللحظة … سكنتني روح غريبة … لم أعرفها من قبل ….. روح باردة …. كقطرة مطر ..
روح …. لم تكن يوماً أنا … ولكنها اليوم … تملكتني … حتى النخاع …..
روح …. حولت …. في لحظة واحدة …. ذاك الطفل الصغير الذي كنته … الى الرجل … الذي هو أنا ….
الرجاء على جميع المسافرين على الرحلة رقم 534 التوجه إلى البوابة رقم 5 ..
نظر إلى ساعته في قلق … ثم مسح دمعة كادت تنحدر على وجنته …
و أردف :
وهكذا .. يا عزيزي … بدأت في رحلتي هذه … للبحث عن الوطن …
زرت منذ ذلك اليوم وحتى الآن .. مدناً كثيرة … تعرفت على ثقافات عدة … و تكلمت لغات متنوعة ….
ثم بنبرة مختلفة :
فنجانك دنيا مرعبة .. و حياتك أسفار وحروب ….
ستحب كثيراً يا ولدي .. و تموت كثيراً يا ولدي …
وستعشق كل نساء الأرض .. وترجع كالملك المغلوب …
إن الفرق بيني وبين بطل هذه القصيدة … أنني أحببت كل مدن الأرض …
.
ولكنني لن أرجع كالملك المغلوب….. بل سأصل.. حتماً سأصل …
و اذا بوجه … لم أر مثله من قبل … عيناه اتسعتا … و حل محل الحزن … بريق الأمل … وضوء عجيب … زين جبينه …
ثم نظر اليَ بابتسامة …. حملت كل معنى للطموح… للإرادة … و للتصميم ..
ابتسامة لو وجدت لدى أي إنسان … لإمتلك الدنيا بها ….
ثم قام من مكانه ..
ودعني بصمت ..
متوجهاً لطائرته …
راقبت الطائرة تتحرك من أمامي …… ببطء …. ثم أقلعت .. بعد أن أدت … رقصة الرحيل ….
ذهبت بعد ذلك إلى مقهى المطار … لأتناول قهوة بيضاء … و أفكر ..
أفكر في هذا الرجل ….
رجل بلا وطن … بلا عنوان …
بجواز سفر .. مكتوب عليه … اسم دولة لا وجود لها ….
لا مكان لينتمي اليه … سوا هذا العالم …. و حلم قديم … ورثه عن والده ….
خبر عاجل : يؤسفنا أن ننقل إليكم خبر سقوط الطائرة رقم 534 المتوجهة إلى برلين … وفقدان جميع
ركابها ….. إنا لله و إنا إليه راجعون ….
انقطع الصوت …..
فانسابت دمعة ساخنة على وجنتيَ….
و قرأت في صمت …الفاتحة … على روح رجل عظيم …
قضى حياته في رحلة ….
رحلة لم تكتمل …..
No comments:
Post a Comment