Apr 10, 2006

رحلة لم تكتمل

مشاركتي في ورشة عمل أنا أنتمي (I Belong) التابعة للمجلس الثقافي البريطاني 


جلست في بهو المطار.. أنظر إلى الطائرات .. في هبوطها و إقلاعها …

فسمعت صوتاً من خلفي يقول : جميلة هي الطائرات …. بإقلاعها و هبوطها ..

تذكرني … بمسرحية موسيقية تدعى ( بحيرة البجع )….

فكما البجع الأبيض … ترقص الطائرات … على أنغام الموسيقى… رقصة الرحيل ..

نظرت اليه …

فجلس رجل في بداية الثلاثينيات بجانبي بهدوء …

وقال : أترى تلك ذات الجناح الأحمر … تلك هي طائرتي اليوم ..

نظرت اليه و أسئلة كثيرة تدور في ذهني …..

قلت :و كيف تعرف هذا ؟

تمتم بصوت منخفض : وكيف لا أعرف!!

نظرت إلى وجهه باستغراب .. فقال موضحاً …

إنني يا عزيزي رحال .. أعيش حول الحقائب وبين نظرات المارة ….. 

أقضى معظم وقتي.. ما بين طائرة ومطار…. ما بين مركب و سفينة ….

لم تبق مدينة سوداء ولا بيضاء … شقراء ولا حمراء …. الا وطئتها حقائبي …. و غنى لي القمر فيها ….

أغنية حب جميلة ….. حتى تغفو جفوني …..

في كل مكان …. لي أصدقاء …. وفي كل مدينة … أترك قلب كسير  ….. يشتاق لتقبيل جفوني…

ولكن حقائبي … تأبى الاستقرار … و تأبى أن تعود لتفتح … في نفس المكان ….


أسند رأسه إلى الخلف … فسألته بصوت خافت : ولم تفعل ذلك ؟؟

رفع رأسه بعصبيه … ثم نظر إليَ برهة ..

وقال كأنه يخاطب نفسه : لماذا ؟؟؟ سؤال يتردد دوماً عليَ …. ولم أملك يوماً الجرأة في الرد عليه …

 ولكنني اليوم .. و لأول مرة … سأجيب عليه…


ثم و كأنه يعود بالماضي :

عندما كنت طفلاً … كنا نعيش .. أنا ووالدي .. في إحدى المدن الخاضعة للاحتلال …

حيث أذهب أنا إلى المدرسة .. عبر الحواجز وصرخات الجنود …..

ويذهب أبي إلى عمله طوال النهار …

و نعود في نهاية اليوم … لتناول الطعام … على سفرة من تراب …

ثم نفترش الأرض ..ليحكي لي والدي  …حكاياً ستظل عالقة بذهني إلى الأبد….

حكايا ..عن مدينة جميلة..  السلام … شعارها …. فلا حرب فيها .. ولا شجار .. ولا خوف …

مدينة … تهب الحب .. كما تهب الماء … بلا شرط .. ولا سبب… ولا انقطاع …

مدينة .. نعيش بها .. كعصفوران طليقان … بلا حواجز … بلا جدران .. ولا قيود لتكبل حريتنا ….

ننام فيها … ملئ جفوننا … لنستيقظ … وصوت العصافير … يمتزج بالريح … لتعزف لنا الطبيعة …

سمفونية عذراء …..

في كل ليلة … كان يحكي لي عن هذه المدينة …

ببيوتها البيضاء .. المتشابهة في سقوفها القرميدية الحمراء … بزهورها الملونة …. المتناثرة في كل مكان ….
بأطفالها الضاحكين … ونساءها الجميلات …

كنت في كل ليلة … أحلم بهذه المدينة … وفي كل ليلة أتساءل …

لم فرض عليَ أن أعيش هنا ..في بيت .. ليس ببيت .. وسرير … ليس بسرير .. وحياة … ليست بحياة…..

كنت أتسائل دوماً …. لم لا نذهب الى الوطن ….

نعم .. فلقد كانت هذه المدينة هي الوطن بالنسبة إليَ … هي المكان الوحيد الذي أحسست بالانتماء إليه .. طوال حياتي …..
  
 وفي يوم من أيام الشتاء القارص … وبينما أنا في طريقي إلى المنزل …

سمعت صوت انفجار هائل … قادم من جهة بيتي … فركضت .وركضت..

 و الأفكار تغرق رأسي الصغير…. كما ريشة في مهب الريح …

وصلت …. لأجد كتلة سوداء …. مكان شيئ كنت اعتبره بيتي … رماد متناثر في كل مكان …..

وركام … يسد كل شيء….

بحثت عن والدي … تحت أكوام الحجارة و الرماد …

 فوجدته بعد عناء بين الأنقاض …

 بعينان مفتوحتان …. و ابتسامة حملت  كبرياء العالم ….

نعم ..
 لقد توفي أبي … توفي ….و أنا في العاشرة من عمري ……

 كان والدي …. هو عائلتي الوحيدة … هو الشخص الوحيد الذي أحببته من كل قلبي ….

و الآن… قد رحل ….

اسودت عيناي بالأحزان … و أنطفأ بريق القمر …

في تلك اللحظة … سكنتني روح غريبة … لم أعرفها من قبل ….. روح باردة …. كقطرة مطر ..

روح …. لم تكن يوماً أنا … ولكنها اليوم … تملكتني … حتى النخاع …..

روح …. حولت …. في لحظة واحدة …. ذاك الطفل الصغير الذي كنته … الى الرجل … الذي هو أنا ….



الرجاء على جميع المسافرين على الرحلة رقم 534 التوجه إلى البوابة رقم 5 ..

نظر إلى ساعته في قلق … ثم مسح دمعة كادت تنحدر على وجنته …

و أردف :

وهكذا .. يا عزيزي … بدأت في رحلتي هذه … للبحث عن الوطن …

زرت منذ ذلك اليوم وحتى الآن .. مدناً كثيرة … تعرفت على ثقافات عدة … و تكلمت لغات متنوعة ….


ثم بنبرة مختلفة :
فنجانك دنيا مرعبة .. و حياتك أسفار وحروب ….
ستحب كثيراً يا ولدي .. و تموت كثيراً يا ولدي …
وستعشق كل نساء الأرض .. وترجع كالملك المغلوب …

إن الفرق بيني وبين بطل هذه القصيدة … أنني أحببت كل مدن الأرض …
.
ولكنني لن أرجع كالملك المغلوب….. بل سأصل.. حتماً سأصل …

و اذا بوجه … لم أر مثله من قبل … عيناه اتسعتا … و حل محل الحزن … بريق الأمل … وضوء عجيب … زين جبينه …

ثم نظر اليَ بابتسامة ….  حملت كل معنى للطموح… للإرادة … و للتصميم ..

ابتسامة لو وجدت لدى أي إنسان … لإمتلك الدنيا بها ….

ثم قام من مكانه ..

 ودعني بصمت ..
متوجهاً لطائرته …

راقبت الطائرة تتحرك من أمامي …… ببطء …. ثم أقلعت .. بعد أن أدت … رقصة الرحيل ….

ذهبت بعد ذلك إلى مقهى المطار … لأتناول قهوة بيضاء … و أفكر ..

أفكر في هذا الرجل ….

رجل بلا وطن … بلا عنوان …

بجواز سفر .. مكتوب عليه … اسم دولة لا وجود لها ….

لا مكان لينتمي اليه … سوا هذا العالم …. و حلم قديم … ورثه عن والده ….


خبر  عاجل : يؤسفنا أن ننقل إليكم خبر سقوط الطائرة رقم 534 المتوجهة إلى برلين … وفقدان جميع

 ركابها ….. إنا لله و إنا إليه راجعون ….


انقطع الصوت …..

فانسابت دمعة  ساخنة على وجنتيَ….

و قرأت في صمت …الفاتحة … على روح رجل عظيم …

قضى حياته في رحلة ….

رحلة لم تكتمل …..